تعليب الإنسان.. كيف أثرت البيئة المعاصرة علينا وعلى الفن؟
يصعب على الإنسان المعاصر أن يقدم لنا ما قدمه الإنسان في الماضي، من الصعب أن يخرج لنا شكسبير جديد، ومن الصعب أن يخرج لنا مايكل أنجلو، وهكذا من الصعب أن نجد في الأسواق كتاب جديد يشبه كتاب الأغاني للأصفهاني، كما لن نجد ملكًا ضليلًا جديدًا، بل لن تتوقف الاختلافات في مجال الفن فقط، سنجد أن الحياة تختلف اختلافًا جذريًا سواءً على مستوى الموجودات المادية في عالمنا، أو طريقة تفكير البشر وتعاملهم مع العالم، وفي هذا المقال سأعرض أهم الفروقات بين عالمنا في الماضي وعالمنا المعاصر ولماذا لا تنتج البيئة المعاصرة فنونًا وأفكارًا شبيهة بإنتاجات البيئة القديمة.
تقليل التلوث وحماية الحياة البرية والترابط الأسري.. فوائد غير متوقعة لوباء كورونا

العالم القديم والعالم المعاصر
كان العالم في ما مضى لا يحتوي على شيء إلا الطبيعة، والأشياء الضرورية التي يحتاجها الإنسان، وهنا نتحدث عن المأكل والمشرب والمأوى والملابس وأدوات الحرب البدائية من سيوف ودروع، كان الإنسان يعيش حياته بلا معوقات كثيرة، لم يكن أمامه مدارس بالشكل النظامي الحديث، ولم يكن أمامه وظيفة حكومية تتسبب في خسارته نصف يومه، وكانت التزامات الحياة هذه تتدرج ببطء مع تطور عالمنا، في البداية كنا نعيش في الكهوف، ثم انتقلنا إلى البيوت البسيطة.
ظلت المساكن تتعقد إلى أن وصلنا للمنازل التي نراها حاليًا، البناية الواحدة تصل إلى 20 طابقًا، والطابق الواحد يحتوي على ثلاثة أو أربعة منازل، وبسبب الجشع، واللهث الرأسمالي، يحاول صاحب المال استغلال المساحات قدر المستطاع، وهنا نجد الإنسان الذي كان يخرج صباحًا إلى النهر أو الجبال، أصبح يستيقظ ولا يجد إلا شرفته التي تسلم نهايتها إلى بداية شرفة منزل آخر، ولا يفصل بين الشرفات والبنايات نفسها إلا شوارع ضيقة للغاية مقارنة بحياة الإنسان القديمة.

بالتأمل في طريقة الحياة الحديثة هذه سنجد أن الإنسان يتم سحقه من أجل الحصول على مال أكثر، ولا تتوقف المشكلة هنا على جشع صاحب الأموال فقط، بل تمتد المشكلة إلى المستهلك -الشاري- الذي لا يمتلك قدرة شرائية عملاقة تسمح له ببناء أي بيت كما يريد ويهرب من كل هذا الزحام، وكل هذه الضوضاء البشرية والشوارع الضيقة، بل نجد أن الأمر لا يختلف كثيرًا من الطبقات الفقيرة إلى الطبقات الغنية إلا في بعض التفاصيل التي يتم خداع الإنسان بها، وهنا أتحدث عن مجتمعات ضيقة مليئة بالمساكن لكن في المجتمعات الراقية نجد بحيرة صناعية توجد في مجال رؤية الساكن حينما ينظر من شرفته.
أحيانًا يرغب الإنسان في الهروب من كل هذا، لكن المشكلة أن المواصلات اليوم أصبحت مزدحمة وأصبح الإنسان بداخلها مثل الأطعمة التي يتم تخزينها في عُلبِ الألمنيوم الصناعية، وحتى الإنسان الذي يمتلك سيارته الخاصة نجده يشتكي من الزحام، وإذا خرجنا للسير على الأقدام قليلًا ما نجد أماكن فارغة يمكن أن تساعد في تهدئة أعصابنا، وبنظرة خاطفة وسريعة- لا أقول مدققة وفاحصة- على العالم في الماضي والعالم الحديث الذي يتم تعليب الإنسان فيه سنعرف لماذا نجد كل هذا القصور في إنتاجه الفني، ولماذا هذا التشتت في إنتاجه الفكري.

الفايكنج والبيئة النرويجية
إذا تركنا الصورة التي نحاول رسمها عن عالمنا الحالي وذهبنا في رحلة إلى الماضي سنجد أن الحياة مختلفة تمامًا عن الآن، فإذا نظرنا إلى شعب الفايكنج وبيئتهم في النرويج سنجد أن هذا الشعب يعيش وسط الجبال العالية، وخلف البحار الواسعة، وأمام الأنهار الطويلة، بل ويمكن أن يراقب الواقف في مكان مرتفع أقوى الدوامات البحرية التي يعرفها الإنسان، ومع هذه الطبيعة الخلابة الساحرة التي يصعب أن نجد مثلها في مكان آخر نجد أيضًا مجموعة من أكبر الشلالات المائية في العالم.
لا يتوقف الأمر هنا فقط بل نجد البيئة بأكملها تتحول إلى اللون الأبيض في الشتاء، وبخفة وبراعة تمسك الطبيعة فرشاتها وتحول هذا الأبيض إلى أخضر في فصلي الصيف والربيع، وإذا دققنا النظر في البحار سنجد هجرة الأسماك كبير الحجم، وإذا تركنا الأرض بأكملها ونظرنا إلى السماء سنجد ظاهرة الشفق القطبي في مشهد يدهش الألباب ويجعلنا ننسى كل الجمال الكائن على الأرض أسفل أقدامنا.

لا يستطيع عقل الإنسان الصمود أمام كل هذا الجمال، ولا أتحدث هنا بصيغة مجازية بل أتحدث بشكل حرفي، وذلك حيث نجد أن الفايكنج حاولوا نسب هذا الجمال إلى قوى عليا إلى آلهة، فنجد أن الشفق القطبي يمثل دروع العذارى الصاعدات مع الجنود الذين ماتوا في الحرب، كما نجد أن المياه تتحرك بقوة بسبب إله، والرعد يضرب بسبب إله، والأرض تنمو نباتاتها بسبب إلهة الخصب، وهكذا يبدأ عقل الإنسان بالاندهاش ثم ينطلق في عالم ميتافيزيقي يحاول به تفسير ما يراه.
لا يتوقف الإنسان عند ذكر أسماء للآلهة فقط بل يقوم بنسج قصص وملاحم شعرية، ونجد كتابات مسرحية عميقة وكثيفة، ومن هذه الأفعال ومن هذه الروح الدينية، نجد أن حياة الإنسان بأكملها تتأثر بقصص الآلهة، وبدورها تؤثر في الحياة اليومية وتؤثر في العلاقة بين أفراد المجتمع وهكذا نجد أن الخيال المتقد الذي لا يحده شيء ينطلق في صناعة نسق فكري واجتماعي للعالم الذي نعيشه.
كل ما ذكرناه في الفقرة السابقة لا يحدث في عالمنا المعاصر بشكل مباشر، وذلك لا يتوقف على تقدم الإنسان فكريًا وطريقة تعامله مع العالم فقط، بل أجد أن السبب الأساسي لهذا هو أن الإنسان الآن لم يعد يرى الطبيعة لا نجومًا ولا بحارًا، كل ما نمتلكه الآن هو الإسمنت والحجارة بشكل مبالغ فيه ويكاد لا يحتمل، كما نجد أن الشعوب البدائية التي تعيش معنا الآن بشكل منعزل عن المدن ما زالت قادرة على خلق خيالات لا يحدها شيء.
الفن كذبتنا الصادقة
الفن الجامح الحر الذي يحبه الإنسان ويتعلق به هو فن لا تحده حدود وهذا يصعب فعله الآن ليس لأننا نتحرك في حيز جدران إسمنتية فقط، بل لأننا نتحرك داخل أنساق علمية أيضًا، ونجد أننا كلما ابتعدنا عن الطبيعة أصبحت حياتنا أقل روحانية، وأصبحنا أقرب للمادة والأرقام، على سبيل المثال كان الثعالبي قادرًا في كتابه “عرائس المجالس” أن يتحدث عن خلق الكون ويقول أن الكون كان جوهرة خضراء نظر الله لها فأصبحت ماءً… إلى نهاية القصة.
لن نجد كاتبًا أو مفكرًا الآن يمكنه الكتابة عن بداية الكون وما هي نظرته لهذا الأمر، وذلك لأن أي متعلم الآن يعلم أن مسألة مثل هذه متروكة للعلم لا للخيال، وهنا سيتنازل الإنسان عن الكثير من الأشياء لأنه يعلم أن الحديث عنها لا يجوز إلا في منازل ومواقف معينة، ويدفعنا هذا الأمر إلى سؤال مهم، هل من الجيد أن نترك للإنسان الحرية الكاملة؟ والجهل الكامل الذي يجعله يصنع آلهة، ويؤلف القصص، يبدع الأكاذيب، وينسج الأساطير، أم أن الأفضل هو أن يعرف الإنسان الحقيقة فقط ولو كان المقابل هو تأثر الفن والروح بشكل سلبي، وصعود المادة والأرقام، والقوالب المحددة، وتحول الحياة كلها إلى أشياء معلبة مثل الإنسان.
لفهم هذه النقطة أكثر سأضع مثالًا بسيطًا لتوضيح الفكرة، لتتخيل أنك أمام أرض خضراء واسعة مرصعة بزهور عباد الشمس، وفوق هذه الأرض سماء زرقاء صافية، وتحت أشعة الشمس اللطيفة نجد بيتًا بسيطًا لفتاة جميلة يصعب تمييزها عن الملائكة، للحظات ستعتقد أن هذا المشهد حلم مثالي لا يمكن أن يفسده شيء، لكن إذا نقلنا هذه الفتاة الريفية إلى المدينة وتحدثنا معها عن أساسيات العلوم والفنون والكون ووجدنا أن الفتاة جاهلة في هذه الأمور، هل ستبقى حينها بنفس البريق في أذهاننا؟ ما أقصده هنا ما هو المهم بالنسبة للفن أن يكون روحانيًّا كاذبًا أم ماديًّا صادقًا؟

فوائد لتعليب الإنسان
على الرغم من أن سلب الطبيعة من الإنسان تعد جريمة، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أن الحياة الجافة والمحددة والتي يتم تخطيط كل شيء فيها لها فوائد أيضًا، والفائدة الأولى أن الإنسان تغلب على الكذب الذي كانت الطبيعة تعطينا إياه ونحن راضو الأنفس، لم تعد الأمراض غضبًا من قوى عليا، ولا نتعامل مع الحروب على أن الإله أريس يساعدنا فيها، ساعدتنا النظرة المعلبة على التعامل مع العالم بشكل أكثر جدية، بالطبع خسرنا القدرة على خلق فنون ساحرة تخطف الألباب كما كنا نفعل لكننا كسبنا أشياء أخرى.

كانت الطبيعة مذهلة إلى درجة الرعب، فكنا نجد الإنسان يخاف من الطبيعة ويخاف من ظواهرها المختلفة، لكن بعد زيادة أعداد البشر وبناء المنازل بدأت هذه الجدران وهذا الزحام يقلل من حدة خوفنا من الطبيعة، بل ووجدنا أن الإنسان تجرأ على الطبيعة وبدأ يعرف أسرار وعللها، والإنسان الذي كان يصنع الفنون بالتأمل في الظواهر الطبيعية أصبح يتدخل بشكل مباشر فيها، وأصبحنا نرى الإنسان يتدخل في عمل الآلهة، وذلك بترويض العالم عن طريق العلوم المختلفة من فيزياء، وكيمياء، وأحياء، ووراثة، وغيرها.
البحر والطبيعة الخاصة بـ الفايكنج لم تعد هي هي، وذلك على الرغم من احتفاظها بجمالها، ما أقصده أن الإنسان أصبح يعرف ماهية الماء، ودرجة الحرارة، والأسباب الأساسية لتحركات الطبيعة، بل وأصبحنا نرى أن البحر هو الكثير من الماء، والماء يتكون من ذرات وهذه الذرات ترتبط بروابط معينة، كل العالم الذي كنا نراه ونعرفه اكتشفنا أنه عالم آخر تحكمه قوانين محددة، ويسير وفق أرقام معينة، وعرفنا أننا لم نكن نحتاج لشيء إلا الهروب من سطوة الطبيعة لنفكر فيها بشكل عقلاني.

الهروب من البيئة المعاصرة إلى الطبيعة
في الإنسان حاجة داخلية خافية تدفعه دائمًا للهروب إلى الطبيعة مرة أخرى، على الرغم من الوقت الذي نعيشه في منازلنا إلا أننا نجد أننا كل مدة نريد الهروب من كل هذا إلى الطبيعة، ونجد هذا في حبنا في السير خلال الخضرة، أو حتى ما نفعله في الصيف عند الذهاب إلى الشواطئ، وبالطبع هذا غير السفر حول العالم من أجل تسلق جبل، أو مشاهدة حقل، أو مراقبة أمواج بحر معين، ونجد أن هذه النقطة قد انتبه لها المخرج أندري تاركوفسكي في فليمه “Stalker”، وذلك حينما كان يهرب أبطال الفيلم من المدينة المظلمة إلى الطبيعة والخضرة.
تأثير البيئة على الفن
بالتركيز في البيئات المختلفة سنجد أن كل بيئة قادرة على خلق نوع معين من الفن، وجود المتنبي في قصور الحكام ساعد في خلق نوع معين من الفن، وجود محمود درويش منعزلًا في منزله مع القهوة ساعد في خلق فن معين، ووجود هوميروس في بيئة معينة أخرج لنا فنًّا معينًا، وبالطبع ستختلف الفنون التي تخرج من الطبيعة عن التي تخرج من الإسمنت، والمفكر الذي يكتب في جبل مرتفع، غير المفكر الذي يقتله مجتمع جاهل يعيش فيه، وبالطبع لا أتحدث هنا عن عملية تعليب الإنسان على أنها السبب الوحيد المؤثر على الإنسان بل هي عامل مهم يتضافر مع العديد من العوامل الأخرى.
تعليب الإنسان والفن
كما قلنا سابقًا إن عملية تعليب الإنسان هي السمة السائدة في عصرنا الحالي، ونجد تأثير هذه العملية في الفنون المختلفة، لم تصبح الفنون مميزة وفريدة كما كنا نشاهد سابقًا، ولم يعد كل فنان يتميز ببصمة فريدة، بل أصبحنا نجد أن الفن نفسه أصبح صور نمطية مقررة مثل البنايات السكنية إلا فيما ندر، الأفلام كلها متشابهة، والروايات كلها متشابهة، والأغاني أيضًا، ولا نجد الفن معلب فقط، بل نجده معلبًا وسيئًا، وغرض الفنان أصبح مثل غرض صاحب البناية وهو بيع أكبر عدد ممكن من العُلب، ومرة كل سنوات نجد فنانًا أو حتى عملًا فنيًّا واحدًا استطاع أن يتحرر من كل هذه القيود وقدم نفسه كعمل فريد يتميز ببصمة خاصة.
في نهاية المقال لا أعتقد أن كل إنسان يستطيع بمفرده أن يخلق البيئة التي يريد أن يعيش فيها، وكما لا نستطيع أن نعيش في الماضي وروحانيته ومحفزاته للخيال، كذلك لا نستطيع إلقاء الحاضر خلف ظهورنا، لذلك يمكننا أن نوازن بين هذا وذاك، لا ننسى الواقع ولا ننسى الإنسان، يمكن أن نشتري وجبة جاهزة ونأكلها تحت ضوء النجوم، ويمكننا أن نركب سيارة مزدحمة ونترك وعينا وأعيننا للبحر والأمواج، كما يمكن أن نهتم أكثر بالنباتات والحيوانات، وكما يقال “ما لا يدرك كله لا يترك كله”، وعملية موازنة حياتنا بين الماضي والحاضر ستساعدنا على خلق بصمتنا المميزة وفننا الفريد، المهم ألا ننخدع في مكان معين ونجعله يسرق مننا حياة كاملة كنا نستطيع أن نعيشها قبل أن نموت.
أحلي ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية
بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك
عبَّر عن رأيك
إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.